.كان الشافعي رضي الله عنه عمره
نحو أربع عشرة أو خمس عشرة سنة ، كان يدرس العلم عند مالك بالمدينة
المنورة ، فاتفق أن رجلا جاء إلى مالك فاستفتاه ، قال له : إني حلفت
بالطلاق أن هذا القُمْرِيَّ لا يهدأ من صياح . فنظر مالك ، فأداه نظره
واجتهاده إلى أن هذا الإنسان حنث في حلفه ، فطلقت امرأته ، لأن القمري لا
بد أن يهدأ من صياح ليس كل ساعة يصيح .... فأفتاه بطلاق امرأته . فعلم
الشافعي بهذه الفتوى فاجتهد الشافعي ، فلم يوافق عليها ، قال للشخص مراده
بقوله إن هذا القمري لا يهدأ من صياح ، أنه كثير الصياح ، ليس معناه أنه
ليست له فترة يسكت فيها عن الصياح ، وأن الطلاق لم يقع على زوجته ، لأنه في
أكثر أحواله يصيح ، وفي بعض منها لا يصيح ، فلم يحصل الطلاق لأنه في
العُرف يقال له ( لا يهدأ من صياح) فلم يحنث في حلفه ، ما انكسر حلفه ، قال
له : ( لم تطلق امرأتك ) هو الشافعي أخذ هذا الحكم من حديث صحيح الإسناد
أن نبي الله جاءته امرأة فاستشارته للتزوج برجلين رجل يقال له أبو جهم ورجل
ءاخر هو معاوية بن أبي سفيان . فقال لها الرسول من باب النصيحة : " أما
أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه " يعني أنه ضرَّاب ، ضرَّاب للنساء " وأما
معاوية فصعلوك " عليك بفلان سمى لها شخصا ثالثا . الشافعي من هذا الحديث
استخرج أن هذا القمري ليس المراد أنه لا يهدأ بالمرة من الصياح إنما المراد
أنه كثير الصياح ، ما دام مستيقظا الصياح يغلب عليه ، صياحه يغلب على
سكوته ، فلا يَحْنَثُ هذا الرجل الذي علق طلاق زوجته . كما أن الرسول لما
قال " أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه " ، ما أراد أنه في حال النوم
وفي حال الأكل والشرب وفي حال الصلاة يظل حاملا عصاه على عاتقه . ما عنى
ذلك إنما عنى أنه كثير الحمل للعصا ، يغلب عليه حمل العصا على عاتقه ،
فالشافعي من هنا استخرج فتوى لهذا الرجل . فرجع الرجل إلى مالك فقال له : (
إن ههنا فتى يقول لم تطلق امرأتك ) فقال ( عَلَيَّ به ) ، فحضر الشافعي ،
فقال ( من أين قلت ما قلت ؟ ) فقال له ( من الحديث الذي أنت حدثتنا أن
فاطمة بنت قيس جاءت إلى الرسول فقالت ( إن أبا جهم ومعاوية خطباني ) فقال
الرسول : " أما أبو جهم فإنه لا يضع العصا عن عاتقه " ، أنا من هذا الحديث
أخذت ) . فسكت مالك ما عارضه لأنه وجد معه حجة . هنا قريحة الشافعي الذي هو
تلميذ مالك طلعت أقوى من قريحة مالك . أدرك الشافعي ما لم يدرك مالك ، مع
أن مالكا أستاذه وأكبر منه سنا لكن العلم مواهب من الله والقرائح مواهب من
الله .