الحاجة فرحة
أدخلت الحاجة فرحة البرغوثي (74 عاما)، من قرية كوبر شمال رام الله، إلي قسم العناية المركّزة في مستشفي الشيخ زايد برام الله في بداية نيسان (إبريل) 2005م، وبعد جملة من الفحوصات والتحاليل، أخبر الأطباء عائلتها أن كل شيء بيد الله، فلم يعد أمام الحاجة سوي أيام، واختصر الأطباء الأسباب في أن كبيرة عائلة البرغوثي في كوبر وأم كل الأسري كما يسميها البعض، تعاني من مشاكل صحية عديدة، أخطرها وجود مياه علي الرئة، وهبوط في دقات القلب، إضافة إلي تدهور في وظائف الكبد أدي إلي حدوث تشمع كبدي، وانتفاخ في البطن.
معاناة الحاجة فرحة كان من الممكن أن يطويها النسيان لولا وجهان من وراء القضبان ظلا يلوحان أمامها بين صحوتها وغيبوبتها، نائل وعمر.. بدي أشوفهم قبل ما أموت ، ظلت تلح بالقول، فقد اعتقل ولدها الأصغر نائل في الرابع من نيسان (أبريل) عام 1978م، برفقة شقيقه الأكبر عمر وابن عمه فخري بعد أن اتهموا بالقيام بعملية فدائية في منطقة النبي صالح شمال رام الله أدت إلي مقتل طيار صهيوني، وحكم عليهم جميعا بالسجن مدي الحياة.
وفور إطلاق الحكم بالسجن مدي الحياة أطلقت الحاجة أم عمر الزغاريد، وعندما سألها جنود الاحتلال عن سبب الزغاريد وقد حكم علي ولدها بالسجن مدي الحياة؟ ردت عليهم قائلة: إنه قد نجح في حرق قلوب الأعداء ويستحق ذلك الفرح.
ومنذ سبعة وعشرين عاما فشلت كل اتفاقيات الهدنة والمفاوضات وصفقات التبادل في أن تعيد الأسيرين إلي أحضان أمهما أو فخري الذي لا يناديها سوي أمي الحاجة فرحة بعد أن فقد أمه بينما كان صغيرا، وفي كل مرة تعود من استقبال المحررين من الأسري بخفين من دمع وألم.
وكان عمر أبو عاصف ابنها الأكبر قد أطلق سراحه عام 1985م بعد ثماني سنوات قضاها في الأسر، ولكن أعيد اعتقاله لاحقا لمدة 40 شهرا تحت الاعتقال الإداري، ومن ثم لثلاث سنوات ونصف أخري. وقبل أقل من عام ونصف التحق عمر مرة أخري بركب أخيه في سجن عسقلان ، وما زال حتي الآن ينتظر حكما لا يبدو أنه سيكون قصير الأمد.
تقول الحاجة فرحة: في العام 1978 اعتقلوا نائل لأول مرة عشرين يوما لأنه سرق عصا لأحد الجنود، وعندما خرج من المعتقل قال لي: يا أمي، رأيت نفسي بين المعتقلين مثل الدجاجة الصغيرة...عرفت أن نائل يسعي إلي عمل أكبر. وبعد ذلك بشهر تقريبا، جاء الجنود وطرقوا الباب بشدة، فقام زوجي وفتح الباب لهم، فقالوا نريد نائل، وقاموا باعتقاله، وبالطبع كسَروا الأثاث والبيت. وبعد أيام جاؤوا مرة أخري واعتقلوا عمر حيث كان يقودهم ضابط مخابرات اسمه أبوطارق قلت له: زي ما أخذت أولادي من الفراش الله يبعث أولاد حلال يأخذوك من أبنائك. وبعد سنوات، وعندما دخل الاحتلال إلي جنوب لبنان قتل أبوطارق في عملية تفجيرية حدثت في منطقة صور .
وتضيف أم المعتقلين: بعد اعتقال نائل وعمر لم أعرف ما تهمتهما إلا من التلفزيون الذي بث محاكمتهما، وتفاجأنا أن تهمتهما قتل مهندس الطيران الإسرائيلي. وعند أول زيارة لنائل قال: يا أمي يريدون أن ينقلوني إلي سجن السبع، فقلت له: سجن السبع للسبع، ونقلوه إلي هناك. ومنذ ذلك التاريخ لم يبق معتقل من المعتقلات إلا زرته، وكان لي حكاية فيه، سواء مع الشبان أو الجنود الذين كانوا يحاولون أن يضيقوا علينا وعلي المعتقلين. فكنت دائما علي عراك معهم، ودائما يقول لي نائل: يا أمي، كل الشبان هنا وأهلهم يعرفونني ويعرفونك، فأقول له: يا بني أنا لست أمك وحدك أنا أمهم جميعا. وكثيرا ما كنت أزور معتقلي الدوريات ـ معتقلي الدول العربية ـ فكثير منهم ليس لهم أهل ويعتبرونني أما لهم، وكلهم عزيزون علي قلبي ولا أفرق بينهم وبين نائل أو عمر .
توالت المحن بعد ذلك علي الحاجة فرحة، فقد قدر لها أن تكون هناك في حافلات الصليب الأحمر مع كل فجر يوم لتزور ابنيها الاثنين وزوجها. فمن سجن السبع إلي عسقلان إلي مجدو والظاهرية إلي جنيد ونفحة والنقب، كل هذه الأسماء كانت محلا لزيارات الحاجة فرحة. فعمر كان في الجنيد، ونائل في عسقلان، وزوجها يتنقل من معتقل إلي آخر، وكان لا بد لها أن توفي إلي أبنائها وزوجها الذين تخيروا فاختاروا طريق الجهاد.
الحاجة فرحة بعد هذا العمر عاشت علي أمل واحد فقط هو أن يأتي اليوم الذي تضم بين ذراعيها ابنها نائل الذي دخل السجن في الثامنة عشرة من عمره وهو اليوم فوق الأربعين. وأكبر أمنياتها أن تفرح به قبل أن تموت، وتكشف أم المعتقلين: قال لي نائل أن أسجل شريط فيديو حتي يبقي يراني إذا لم يخرج من السجن وأنا علي قيد الحياة .
الحاجة فرحة البرغوثي، والدة ثاني أقدم أسير في سجون الاحتلال، توفيت بعد أن رفضت إدارة السجون الإسرائيلية السماح لها مرة أخري برؤية ولديها اللذين انتظرتهما طويلا دون جدوي.
كلهم فداء للوطن
قال لها قاضي المحكمة الذي نطق بالحكم الجائر علي ابنها الضرير عبادة: لا يحق لأم مثلك أن يكون لديها أبناء يكفنونها عند الموت، لأنك أنجبت خمسة إرهابيين، ودولة إسرائيل ستحرص علي حرمانك من رؤيتهم لآخر لحظة في حياتك . ولم يسمح لها بزيارة أبنائها، حتي الاتصالات شبه معدومة بسبب الحجز الانفرادي لمعظمهم إن لم يكن لجميعهم، حيث تقول الحاجة أم بكر والدة عضويين في كتائب القسام: إن أبنائي معتقلون في سجون مختلفة وبعيدة عن بعضها، ومرات كثيرة تتصادف مواعيد الزيارات في ذات اليوم مما يزيد من حيرتي، ولا أستطيع أن أزور اثنين معا؛ فالإجراءات التي تتخذها مصلحة السجون بحقهم تأخذ وقتا طويلا تستنفد ساعات النهار بكامله، كما أنهم لا يصدرون لي إلا تصريحا واحدا للزيارة .
أم بكر حاولت أن تحبس دمعتها وهي تجلس في البيت الذي أعتم بسبب غيابهم، ومن يستطيع أن يمنع نزول دمع من عين افتقدت خلف قضبان السجن خمسة كزهور الربيع؟ هل تكفي كل كلمات المواساة المخطوطة في القواميس للتخفيف عنها؟ أم هل تستطيع الصور الحد من حرقة الشوق إليهم؟
توقعت أن يسرق مني الاحتلال ككل الفلسطينيات أحد أبنائي لكن ليس الخمسة! كان المنزل يضج بالحياة والحيوية، لكنه اليوم يشتاق لهم، وجدرانه تفتقدهم ، هكذا تتحدث أم بكر وهي تشحذ نفسها بالصبر والإيمان بجسدها النحيل الذي هده البعد والجوي، فهم خمسة شباب تتكحل العين برؤيتهم: هذا يداعبها وذاك يقبل جبينها، والآخر يأخذ يدها ويطلب الدعاء، ولم تتوقع أم بكر أن هذا البيت سيفتقد يوما تلك الشقاوات أو تلك الضحكات، فهم خمسة من المستحيل أن يرحلوا مرة واحدة، لكن الاحتلال لم يجعل علي الأرض شيئا مستحيلا، وحكم القاضي بـ 700 عام من السجن، هي مجموع ما سيقضيه أبناؤها الخمسة خلف الأسوار الصهيونية.
والسؤال الأول الذي يراود أيا منا: ما هو شعور والدين في غياب جميع أبنائهم خصوصا وأنهم يقبعون في سجون الاحتلال؟ بكر، عمر، معاذ، عثمان، وعلي، خمسة أشقاء أبوا العيش الذليل الذي يحاول المحتل فرضه علي شعبهم ومستقبل حياتهم.
بدأت حكاية أم بكر مع الاعتقالات يوم أن وقع ابنها معاذ أسيرا في سجون الاحتلال؛ حيث يقضي الآن حكما بالسجن المؤبد 26 مرة بالإضافة إلي 25 عاما و24 شهرا، ويتهم الصهاينة معاذا بأنه أحد العاملين مع قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام، وهو معتقل منذ العام 1997م في سجن نفحة الصحراوي، في حين يمكث الابن الثاني عثمان في سجن عسقلان بعد أن حكم عليه بالسجن المؤبد خمس مرات منذ عام 1995م. وعثمان كان يعمل ضمن خلية ما يعرف بتلاميذ المهندس يحيي عياش والتي نفذت عمليتي رامات غان في تل أبيب ورامات أشكول في القدس، أي أن معاذ وعثمان لا يمكن أن يلتقيا بالوالدين إلا بقدرة ربانية.
عبادة الكفيف صانع متفجرات
ولم تكتمل حكاية أسرة أم بكر بعد؛ فـعبادة، الابن الأصغر، له حكاية أخري، إذ لم يشفع له فقدانه للبصر وكونه كفيفا ليعتقله الجنود الصهاينة، وتُصدر عليه إحدي المحاكم العسكرية حكما بالسجن إحدي عشرة سنة. والتهمة الموجهة إليه أنه أحد صانعي المتفجرات، والمشرف علي إنتاج وتطوير صاروخ القسام في الضفة الغربية، حيث اعتقل خلال ما سمي بعملية السور الواقي عام 2002في وادي الفارعة، وكان اسمه مدرجا علي قوائم الاغتيال بتهمة محاولة تصنيع صواريخ القسام في شمال الضفة الغربية، وحين اعتقاله لم يكن قد مضي سوي شهر واحد علي زواجه.
وأما بكر، الابن الأكبر، وهو متزوج وله أربعة أطفال ينتظرونه علي أحر من الجمر، فهو قيد الاعتقال الإداري، حيث يتم التجديد التلقائي له كلما انتهي حكمه وقضي حتي الآن أربع سنوات في السجن، وليس هناك أفق من أجل الإفراج عنه، والتهمة وفق لوائح الاتهام الصهيونية أنه ناشط في حماس .
وبعد أن قضي الابن الخامس عمر محكوميته البالغة عاما ونصفا بتهمة تقديم المساعدة لشقيقه المطلوب تم تحويله إلي الاعتقال الإداري ليتم التجديد له ثلاث مرات، ولم يفرج عنه إلا في كانون الأول (ديسمبر) 2004، والتهمة كانت مفصلة كأخيه، واعتقل في نفس اليوم الذي اعتقل فيه شقيقه الأكبر بكر.
وأما علي الشقيق الأصغر، الذي كان طالبا في السنة الأولي في قسم الصحافة في جامعة النجاح الوطنية، فقد اعتقل كما تقول أمه في الاجتياح الأول لمدينة نابلس في 16/4/2002، وترك زوجته وراءه. وفي المحكمة أبلغ القاضي أم بكر مرة أخري: يجب إحراق دمك علي أبنائك، فهم مخربون ، فقابلته بابتسامة وقالت: هم فداء للوطن .
ولكن دعوات أم بكر لأبنائها متصلة لا تنقطع، ورجاؤها برب العالمين كما تقول كبير: الإيمان بالله، وبقضائه وقدره، الوصفة السحرية لتجاوز أي محنة، نحن لا نملك شيئا بيدنا، فكله مقدر ومكتوب علينا، هم اختاروا طريقهم وساروا فيه. وإن لم يقدر الله لي رؤيتهم في الدنيا فأنا أدعو الله ليل نهار أن يجمع بيننا في الآخرة، ومهما حاول الاحتلال أن يكون سببا في فصل جسدي عن أجسادهم فأرواحنا متصلة .
تتحدث أم بكر، ولا تفقد الأمل بل تجعلك تستمد قوة من كلماتها وبسماتها، علي الرغم من منعها من زيارتهم داخل السجون بعد عزلهم في زنازين منفردة.
وتشير الأم الصابرة إلي أنه بعد انتفاضة الأقصي المبارك باتت الزيارات صعبة ومعقدة، وغالبا ما يتم إلغاؤها أو منعها هي شخصيا من الزيارة، فما أن يعرف السجان الإسرائيلي أنها والدة أحد المعتقلين من عائلة سعيد بلال حتي يمنعها من مقابلة ابنها المقصود.
تقول أمّ بكر عن هذا: لم تكتفِ سلطات الاحتلال باعتقالهم، بل تمنعني وزوجي من زيارتهم جميعا، فلم أرَ عثمان منذ محكمته قبل ثماني سنوات، ومعاذ لم أرَهُ أيضا منذ أربع سنوات، وعبادة الصغير رأيته من بعيد يوم المحكمة، وكانت حالته يرثي لها و ملابسه سيئة للغاية، وكذلك بكر أحرم من زيارته بحجّة المنع الأمنيّ.
ولا تنظر أمّ بكر باستهجانٍ للسياسة القمعية الصهيونيّة بحقّ عائلتها، بل تعتقد أنّ اعتقال الاحتلال لأبنائها الأربعة بعد أنْ أُفرِج عن الخامس هي سياسة تفرضها طبيعة المحتلّ الغريب الذي يشعر بالخوف في كلّ لحظة يتباهي فيها بالانتصار. وتختم أمّ بكر كلامها قائلة: ما يصلني عنهم أنّ معنوياتهم عالية، وأملي أنْ يعودوا سالمين، فأنا وهم مؤمنون بالله وكذلك مؤمنون بعدالة قضيّتنا، وأنا علي يقينٍ أنّني سأحتضنهم يوما ما كيقيني أنّ الاحتلال في فلسطين إلي زوال .
تضامنت مع ابنها الأسير فلحقت بابنها الشهيد:
عائشة محمد حماد الزبن أسلمت الروح إلي بارئها مساء الأحد الموافق 30 آب (أغسطس) من عام 2004 عن 55 عاما قضتها أمّا للشهداء والأسري، عاشت علي أمل حريتهم، وماتت من أجلهم. وتربي في بيتها القادة الشهداء أيمن حلاوة ومهند الطاهر، ومن بيتها أيضا خرج الأبطال إلي ساحات القتال. وكانت قد تقدمت لأداء فريضة الحج مرتين، فلم يكتب لها ذلك، وانتقلت إلي جوار ربها قبل أن تنعم بلقاء ابنها أو أداء فريضتها.
كانت عائشة الزبن تحلم بيوم تحتضن فيه نجلها عمار في وطن لا يعرف الاحتلال الذي حرمها من نجلها بشار قبل نحو عشر سنوات. ولكن حلمها لم يتحقق، وغادرت شهيدة وهي مصرة حتي آخر لحظات حياتها علي مشاركة نجلها عمار آلام الجوع التي يعيشها في سجون الاحتلال ثمنا لمحاولته تحرير أرضه من دنس الاحتلال وهو يقضي حكما بالسجن المؤبد 27 مرة، إضافة إلي خمسة وعشرين عاما.
عائلة الزبن واحدة من تلك العائلات التي قدمت لفلسطين وشعبها الكثير مما يمكن لأي عائلة في حجمها أن تقدمه، فهذه العائلة مكونة من أب وأم وخمسة أبناء أكبرهم بشار الذي قضي خمس سنوات من عمره في سجون الاحتلال إبان الانتفاضة الأولي بتهم تتعلق بانتمائه لحركة حماس، ليفرج عنه عام 1993 ثم يستشهد بعد عام واحد علي خروجه من السجن.
وأما عمار، فله قصة أخري مع الاحتلال، فهو أحد قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام البارزين، وكانت له صولات وجولات في ميادين الجهاد برفقة مهند الطاهر وأيمن حلاوة ومحمود أبوهنود، قبل أن ينكشف أمره ويعتقل عام 1997، وله اليوم ابنتان: بشائر وكانت في عامها الثاني، و بيسان وولدت بعد اعتقال والدها ولم تره منذ ذلك التاريخ، حيث وجهت له عدة تهم تتعلق بنشاطه في صفوف الكتائب ومسؤوليته عن عدة عمليات استشهادية. وهكذا، بقيت أم عمار مع واحد فقط من أبنائها الثلاثة.
ورغم ما كانت تعانيه أم بشار من أمراض كالضغط والسكري وإصابتها بجلطة قبل أربعة أشهر من وفاتها، إلا أن معايشتها لمعاناة الأسري، ومن بينهم ابنها عمار، كانت أقوي من أن تقف كل أسقام الدنيا حائلا أمام عزيمتها وثباتها، فخاضت إضرابا مفتوحا عن الطعام منذ اليوم الأول لبدء الإضراب في السجون، في إصرار عجيب عجز عنه الأصحّاء، وكانت تتواجد في خيمة الاعتصام بشكل يومي، تحمل صورة الابن الغائب في سجون الاحتلال، وتجلس إلي جانب أمهات الأسري لتخفف عنهن بعضا مما يعانينه جرّاء غياب أبنائهن.
ومع استمرارها بالإضراب عن الطعام، أصيب جسدها بالهزال والضعف العام، إلي أن أصابتها نوبة قلبية حادة، فتم نقلها إلي مستشفي المقاصد بالقدس وأجريت لها عملية قسطرة، وتقرر إجراء عملية جراحية لها لفتح الشرايين قريبا. وخلال وجودها في القدس المحتلة لم تكن لتنقطع عن فعاليات الأسري، حتي وهي في هذه الحالة الصحية الصعبة، إذ كانت في خيمة الاعتصام المقامة هناك.
ومنذ اليوم الأول لإقامة خيمة التضامن مع الأسري في نابلس، واظبت عائشة الزبن علي الحضور كلّ صباح والمغادرة في المساء. فقد ذكر معتصمون في الخيمة المقامة وسط نابلس، أن والدة الأسير عمار الزبن ـ الشهيدة عائشة ـ شعرت قبل أربعة أيام بألم في صدرها بينما كانت في خيمة الاعتصام في المدينة، ما استدعي نقلها إلي طبيب أوصي بنقلها إلي المستشفي بعد أن أوضح لأسرتها أن ثلاثة من شرايين قلبها باتت مغلقة. ولكن الشهيدة، وما ان وصلت مستشفي المقاصد حيث حوّلت، حتي توجّهت إلي خيمة الاعتصام المقامة في القدس تضامنا مع الأسري.
محاولات حثيثة بذلها الأقارب والأحباب لثنيها عن مواصلة الإضراب، لكنها كانت تواجههم بسؤال يكشف عن حجم مشاعر الأمومة التي تحملها تجاه ابنها: كيف لي أن آكل وعمار مضرب عن الطعام ؟
وبعد أن حرمت من زيارة ابنها عمار في سجن عسقلان بسبب ظروف الانتفاضة واعتلال صحتها، نقل إلي العزل، فحرمت من سماع صوته علي الهاتف، ولم يرِدْها أي اتصال من عمار لعشرة شهور، عوضا عن زيارته الممنوعة، مما فاقم قلق والدته التي كانت تزداد توترا و حزنا حين تتحدّث لأطفاله الذين لم يشاهدهم.
واتحد الجوع مع القهر، ما جعل قلب الأم المقسوم شطرين بين السجن وخيمة الاعتصام أضعف من الصمود أمام فكرة الموت البطيء الذي بات يحاصر الابن الثاني في زنزانته.
وتوضح دلال محمود الزبن التي لم تتمكن من زيارة زوجها ـ عمار الزبن ـ غير مرتين منذ اعتقل قائلة: دون توقف كنا نحاول ثنيها عن مواصلة الإضراب الذي باشرته مع إعلان الأسري إضرابهم، لكنها كانت ترفض، وتقول: كيف لي أن أتناول الطعام وعمار مضرب عنه ، وتضيف دلال: إن حالة من القلق والغضب والحزن تراكمت في نفسها إثر إضراب الأسري المتواصل عن الطعام وقادت إلي استشهادها. ففي القدس وبعد أن أدخلت المستشفي وحدّدت لها عملية في وقتٍ لاحق، عادت من جديد للاعتصام في الخيمة المقامة في القدس وبقيت تتردّد عليها يوميا، وخلال هذه الفترة ظلّت حالتها تتراجع مما حدا بالأطباء إلي إجراء عملية لها، تكلّلت بالنجاح، ولكن حالتها انتكست بعد بضع ساعاتٍ و فارقت الحياة . وشيّعت جماهير نابلس جثمان الشهيدة عائشة الزبن، انطلاقا من ذات الخيمة التي كانت أحد المواظبين علي الاعتصام فيها.
عائشة، بشار، وعمار الزبن، ثلاثة جمعتهم صفحة الورق الحزين صورة بأيدي العشرات وعلي الجدران في نابلس بعد أن فرقتهم دموية المحتل، فقد سقط بشار كي يفك قيدا يكبل وطنا، ورضي عمار السجن عمرا ثمنا لحرية الأبناء، فيما رأت الأم الموت دربا يصون بعض إنسانية وكرامة الابن في زنزانته.
سننجب جيلا آخر وندعمه
في سبيل حرية الوطن:
ولدوا من أجل الوطن، وأربيهم من أجل الوطن، وسوف يموتون من أجل الوطن ، بهذه الكلمات بدأت السيدة أم لؤي حديثها عن عائلة تستحق أن يطلق عليها اسم (عائلة النضال)، فزوجها اعتقل مرتين (عام 1971 وعام 1975) لفترة أربع سنوات، اثنان من أبنائها الأربعة (لؤي وأبي) معتقلان ومحكومان، حتي هي نفسها لم تفلت من معتقلات الاحتلال وقبعت خلف قضبان سجونه أربع سنوات عام 1973، التهمة واحدة وإن تعددت المسميات والمعطيات ألا وهي: مقاومة الاحتلال.
أم لؤي، تجلس علي كنبة وحولها صور أبنائها معلقة علي جدران الغرفة المزينة باللوحات والأعلام، ترفع رأسها وتتحدث عن عائلتها كأنها تروي قصة عمرها قرون، دون أن تهتز أو تتعب. ولكنها تستهجن تأثر بعض الناس من تفاصيل قصة العائلة، فتطلب من هؤلاء(كما هي تشعر ) بأن يفخروا وبأن يشاطروها السعادة نتيجة تربيتها لابنائها. وتؤكد بأن تأثرها بالأحداث التي مرت بها هي وزوجها لم يثبط من عزيمتها في توريث أبنائها حب الوطن والعمل من أجله.
وتضيف: ان الحياة عزيزة علي الإنسان وتعلمه الدروس والعبر، وأنا كأم وفي ظل الوضع الذي يعيشه وطني فمن واجبي أن أتحول من أم حنون فقط الي أم تربي وتنشئ جيلا حرا يعيش بكرامة واستقرار. والاحتلال هو الذي فرض علينا العيش في حالة التوتر والقلق، وهو الذي فرض علينا الكفاح من أجل انهاء هذه الحالة .
لؤي عودة (26 عاما)، اعتقل في رام الله ووجهت له تهمة التدبير والمساعدة في قتل الوزير اليميني (زئيفي) بحجة أن السيارة التي قام الأبطال باستئجارها كانت باسم لؤي، لكنهم ليس لهذا السبب فقط اعتقلوا لؤي، فالجيش كما قالت السيده أم لؤي كان يلاحقه منذ عام 1996م، بتهمة النشاط السياسي المناوئ لها. وقد حكم علي لؤي بالسجن ثمانية وعشرين عاما.
وتتحدث السيدة أم لؤي عن ابنها الثاني (أبي)، وتفخر بأنه سار علي ما تربي عليه: حب الوطن والمقاومة، فهو معتقل الآن في سجن مجدو، محكوم عليه بالسجن خمسة اعوام.
وقد تنقل أبي بين معظم السجون في محاولة من سلطات الاحتلال لتركيعه وإضعافه وإضعاف أهله: من المسكوبية إلي تلموند إلي الرملة إلي هدريم إلي الرملة ثانية ثم إلي النقب حتي آل به المطاف إلي مجدو، إرادته قهرتهم وهو لم يقهر، تخبو نارهم، ونار الحقد علي العدو لن تخبو في قلب أبي. وتتحدي الوالدة سلطات الاحتلال فتقول: بعد خروج أبي من السجون ـ بعد خمس سنوات ـ إن شاء الله، سوف يزداد حقده وكرهه لهم، وبالتالي سيزيد وعي أبي لمقاومة الاحتلال لأن السجن مدرسة .
أم لؤي جعلت نفسها إلي نهاية الحديث، والمغزي من ذلك أنها تعتبر ما مرت به لا يذكر، قياسا إلي التضحيات التي قدمها أبناؤها، فهي أيضا اعتقلت بنفس التهمة السابقة والوحيدة. وتنهي أم لؤي حديثها مستنكرة ما يتردد علي لسان البعض بأن المرأة مكانها البيت، وتقول: كيف؟؟ دور المرأة لا يقتصر علي البيت بل إلي مقاومة الاحتلال أيضا، نحن الفلسطينيين لا نكتب قصصنا لكي يشفق علينا الآخرون، إنما نفتخر بها، ونحن شعب لا نندم علي شيء فعلناه في سبيل الوطن، وأولادنا لن يذهبوا خسارة، بل سننجب جيلا آخر وندعمه في سبيل حرية الوطن. ولا بد أن يأتي يوم علينا ونري أمام أعيننا نتيجة النضال الذي نخوضه في تلك الأيام .
حكموه (17) مؤبدا
فأطلقت زغرودة أغاظت الصهاينة:
هذا نموذج آخر مليء بالصبر والعطاء والصمود والتضحية، حيث كانت والدة المجاهد المعتقل نور محمد شكري جابر تتعالي علي الآلام والمعاناة كأنها طود شامخ في وجه الجلادين، ففي كل يوم منذ بداية التضامن مع المعتقلين في إضرابهم كانت والدة نور جابر تحمل صورة ابنها مع ابنتها، ومن أحب نور وجهاده، وكانت الصورة عبارة عن سجانين صهاينة ينقلون نور أثناء المحاكمة وهو مكبل اليدين والقدمين.
والدة نور لم تعبأ بطول المسافة بين جامع الأنصار أو جامعة الخليل أو مقر الصليب الاحمر الدولي ومقر التواجد الدولي، فهي دوما بالرغم من تقدمها في السن كانت تحمل صورة حبيبها ولا تمل وتهتف في المسيرات ولا تتراجع، وهي تعلم أن حلمها بإطلاق سراح ابنها لن يتحقق، لكنها كانت دوما تقول: الله قادر علي كل شيء، وكل ما ترجوه الآن أن يحظي المعتقلون بمعاملة إنسانية.
وتروي أم نور جابر قصة معاناتها وصبرها مع ما واجهت من قوات الاحتلال منذ ما يزيد عن (15) عاما، إذ ان نور كان يراقب عن كثب معاناة الأسر الفلسطينية هناك، وكان يشاهد يوميا أيضا ما يقوم به.
كما أن جميع أفراد العائلة تعرضوا للاعتقال والتعذيب علي أيدي جنود الاحتلال بدون استثناء، وفي الفترة التي وقعت فيها عملية وادي النصاري اعتقلت قوات الاحتلال الوالد والوالدة والأشقاء والشقيقات وحولتهم جميعا للتحقيق. وبعد فترة وجيزة أطلقت سراح الأم والشقيقات، وظلت زوجته رهن الاعتقال وحكمت بالسجن الإداري لمدة ستة أشهر، وكذلك شقيقه شكري، ثم قامت سلطات الاحتلال بهدم المنزل المكون من طابقين وست غرف وقاموا بتشريد الأسرة. وفي الفترة التي كان فيها نور مطلوبا لقوات الاحتلال، كان الجنود الصهاينة يقتحمون المنزل بشكل يومي ويحطمون الأثاث ويعتدون علي أفراد العائلة، وكانت هذه الفترة من أصعب الفترات في حياة عائلة نور جابر.
وكان نور جابر قد نشط ضمن مجموعة عملت خلال انتفاضة الأقصي ونفذت العديد من العمليات العسكرية الجريئة. وفي قاعة المحكمة العسكرية الصهيونية صدحت والدة المجاهد المعتقل نور جابر بالزغاريد عندما حكمت المحكمة علي ابنها بالسجن مدة 17 مؤبدا، ولما شعر القضاة والحراس بالغيظ اعتدوا عليها بالضرب وأخـــرجوها من قاعة المحكمة.
ونتابع