بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
صحيح مسلم بشرح النووي
قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة , فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء , هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله }
الآية وفي رواية : ( ما من مولود يولد إلا وهو على الملة ) وفي رواية ( ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه قالوا : يا رسول الله , أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ) وفي رواية : ( إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا , ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وفي حديث عائشة : ( توفي صبي من الأنصار , فقالت : طوبى له , عصفور من عصافير الجنة , لم يعمل السوء , ولم يدركه . قال : أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم , وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ) . أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة ; لأنه ليس مكلفا . وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا , وأجاب العلماء بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع , كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله : أعطه إني لأراه مؤمنا , قال : أو مسلما الحديث . ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة , فلما علم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ) وغير ذلك من الأحاديث . والله أعلم .
وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب . قال الأكثرون : هم في النار تبعا لآبائهم . وتوقفت طائفة فيهم . والثالث , وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة , ويستدل له بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة , وحوله أولاد الناس قالوا : يا رسول الله , وأولاد المشركين ؟ قال : " وأولاد المشركين " رواه البخاري في صحيحه . ومنها قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ , وهذا متفق عليه . والله أعلم .
وأما الفطرة المذكورة في هذه الأحاديث فقال المازري : قيل : هي ما أخذ عليه . في أصلاب آبائهم , وأن الولادة تقع عليها حتى يحصل التغير بالأبوين . وقيل : هي ما قضي عليه من سعادة أو شقاوة يصير إليها . وقيل : هي ما هيئ له هذا كلام المازري . وقال أبو عبيد : سألت محمد بن الحسن عن هذا الحديث , فقال : كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض , وقيل الأمر بالجهاد . وقال أبو عبيد كأنه يعني أنه لو كان يولد على الفطرة , ثم مات قبل أن يهوده أبواه أو ينصرانه لم يرثهما , ولم يرثاه , لأنه مسلم , وهما كافران , ولما جاز أن يسيء فلما فرضت الفرائض , وتقررت السنن على خلاف ذلك علم أنه يولد على دينهما . وقال ابن المبارك : يولد على ما يصير إليه من سعادة أو شقاوة فمن علم الله تعالى أنه يصير مسلما ولد على فطرة الإسلام , ومن علم أنه يصير كافرا ولد على الكفر . وقيل : معناه كل مولود يولد على معرفة الله تعالى والإقرار به , فليس أحد يولد إلا وهو يقر بأن له صانعا , وإن سماه بغير اسمه , أو عبد معه غيره والأصح أن معناه أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام , فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا , وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا , وهذا معنى ( يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) , أي يحكم له بحكمهما في الدنيا . فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما , فإن كانت سبقت له سعادة أسلم , وإلا مات على كفره . وإن مات قبل بلوغه فهل هو من أهل الجنة أم النار أم يتوقف فيه ؟ ففيه المذاهب الثلاثة السابقة قريبا . الأصح أنه من أهل الجنة . والجواب عن حديث " الله أعلم بما كانوا عاملين " أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار , وحقيقة لفظه : الله أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا ولم يبلغوا إذ التكليف لا يكون إلا بالبلوغ . وأما غلام الخضر فيجب تأويله قطعا لأن أبويه كانا مؤمنين , فيكون هو مسلما , فيتأول على أن معناه أن الله أعلم أنه لو بلغ لكان كافرا , لا أنه كافر في الحال , ولا يجري عليه في الحال أحكام الكفار . والله أعلم .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( كما تنتج البهيمة بهيمة ) فهو بضم التاء الأولى , وفتح الثانية , ورفع البهيمة , ونصب بهيمة . ومعناه كما تلد البهيمة بهيمة ( جمعاء ) بالمد أي مجتمعة الأعضاء سليمة من نقص , لا توجد فيها جدعاء بالمد , وهي مقطوعة الأذن أو غيرها من الأعضاء . ومعناه أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها , وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها .